فتحت أم "فريدة" الباب وابتسمت في وجه "سامرين" قائله :
- تعالي يا حبيبتي
نظرت "سامرين" وهي "مهند" الذي افترش مرتبة علي أرض الصالة واستغرق في نوم عميق :
- هو لسه نايم
قالت أم "فريدة" وهي تتوجه الي المطبخ :
- أيوة غلبت أصحيه .. صحيه انتي علي ما أحضر السحور
جلست بركبتيها علي الأرض بجواره وهي تمسح بيدها علي شعره هامسه بإسمه .. فتح عينيه بصعوبه ولاحت ابتسامه علي شفتيه وهو يتطلع اليها قائلا بصوت ناعس :
- حبيبتي .....
ابتسمت بنعومه وقالت :
- يلا يا كسلان قوم عشان تتسحر .. السحور سنة مينفعش تفوتها .. النبي صلي الله عليه وسلم قالنا ان في السحور بركة
ابتسم وهو يومئ برأسه فقالت :
- اوعي تكون مصلتش قيام .. دي أول ليلة في رمضان
نهض وجلس وهو يقول :
- لا صليت الحمد لله .. لازم الواحد يحتسب أجر " من قام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه "
قالت بحماس :
- وكمان أجر الصيام " من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"
ثم نظرت الي حيث ينام وقالت بحزن اشفاقا عليه :
- انت برده مصر تنام كده علي الأرض
ابتسم وهو يداعب وجنتها قائلا :
- انتي عارفه ان ماما أخدت أوضتي وبتنام فيها .. وسبتلنا أوضتها الكبيرة اللي فرشت فيها أوضة نومنا .. فمفيش مكان تاني أنام فيه غير هنا
قالت بحنان :
- طيب نام في أوضتنا
قبل جبينها قائلا وهو ينظر الي عيناها بحنان :
- أديكي قولتي أوضتنا .. يعني مينفعش أنام فيها لوحدي .. وبعدين دي أوضة عروسة عايزاني أبهدلهالك يعني
قالت بسرعة :
- يا سيدي أنا راضية
همس قائلا وهو يتطلع اليها بحب :
- وأنا مش راضي .. مش هنام فيها من غيرك
كاد أن يعانقها لولا دخول والدته قائلا :
- يلا يا ولاد السحور
عاونتها "سامرين" في رص الأطباق فوق الطاوله والتف ثلاثتهم ينعمون بطعام السحور .. فقال "مهند" اليهما :
- متنسوش نية الصيام .. لان الصيام مينفعش من غير نية
قالت "سامرين" وهي تمضغ احدي اللقيمات :
- أنوي كل يوم يا "مهند" ولا أول يوم بس ؟
ضحك قائلا :
- كل سنة تسأليني السؤال ده .. بتنوي مرة واحدة بس في أول الشهر انك هتصومي رمضان كله فريضة لله .. لو حبيتي تنوي كل يوم انوي .. بس مش شرط طالما نويتي أول يوم انك هتصومي رمضان كله امتثالا لأمر ربنا في فريضة الصيام
أومأت برأسها وعادت لتكمل سحورها قائله وهي تنظر الي ساعتها :
- معدش الا دقايق علي الفجر اتسحرنا متأخر النهاردة
قال "مهند" :
- كده أحسن .. لان النبي صلي الله عليه وسلم قال : "ولا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" .. يعني نعجل بالفطار أول ما المغرب يأذن ونأخر السحور
انتهوا من السحور وشرب الماء ولحظات وأذن الفجر .. نزل "مهند" لأداء الفريضة في المسجد بينما صلت "سامرين" مع والدته في جماعة .. عاد "مهند" بعد الشروق ليجد "سامرين" واقفه في الشرفه ساهمه دخل ووقف بحوارها قائلا :
- بتعملي ايه
التفتت اليه وابتسمت قائله :
- صليت الفجر ووقفت في البلكونة والوقت سرقني
صمت "مهند" قليلا ثم استند بمرفقيه الي سور الشرفه وهو يقول :
- انتي فضلتي واقفة في البلكونة تضيعي وقت .. وأنا خدت أجر حجة وعمرة
نظرت اليه ضاحكة وقالت :
- ايه ده هي مكة قريبة للدرجة دي
قال دون أن يبتسم :
- مبهزرش علي فكرة
نظرت اليه بدهشة فقال :
- النبي صلي الله عليه وسلم قال : " من صلي صلاة الغداة (الفجر) في جماعة ثم جلس يذكر الله حتي تطلع الشمس ثم قام فصلي ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة" .. يعني أنا دلوقتي ومن غير ما أدفع ولا مليم خدت أجر حجة وعمرة
نظرت اليه "سامرين" وهي لا تزال مندهشة من هذا الأجر العظيم علي عمل قليل المجهود .. فأكمل "مهند" قائلا :
- يعني انتي في رمضان تقدري كل يوم تاخدي أجر حجه وعمرة يعني تطلعي من شهر رمضان ب 30 حجة و 30 عمرة
قال "سامرين" بحماس :
- ان شاء الله هعمل كدة كل يوم .. بس قولي من الفجر للشروق أعمل ايه يعني اقرأ قرآن بس ؟
قال "مهند":
- اقري قرآن .. استغفري ربنا .. قولي أذكار الصباح .. قولي أذكار ما بعد الصلاة .. مش شرط قراية قرآن بس .. وأول ما الشمس تشرق تقومي تصلي ركعتين .. بس خلي بالك طول الفترة دي متنشغليش بحاجه تانية .. تفضلي أعده في مكانك تذكري ربنا لحد الشروق عشان تاخدي أجر الحجة والعمرة
أومأت "سامرين" برأسها ايجابا فقال "مهند" مبتسما :
- ناوية تختمي كام ختمة السنة دي ؟
قالت "سامرين" :
- والله لو خلصت ختمة واحدة هبقي مبسوطة .. السنة اللي فاتت ملحقتش أختم
قال "مهند" بحماس :
- تعرفي انك لو ختمتي ختمة واحدة في الأيام العادية وربنا تقبلها منك .. تاخدي كام حسنة ؟
صمتت فقال :
- تاخدي 3 مليون وربع حسنات
اتسعت عيناها دهشة فأكمل "مهند" بحماس
- تخيلي بأه ان في رمصان كل حاجة أجرها مضاعف .. يعني الختمة الواحدة عليها ملايين الحسنات .. يعني تمحيلك ملايين الذنوب
شردت فقال :
- تعرفي كمان انك في رمضان ليكي 60 دعوة مستجابة ؟ .. يعني 60 مشكلة من مشاكل حياتك ممكن تتحل .. يعني 60 حلم من أحلامك ممكن تتحقق .. تخيلي لو واحد غني اداكي 60 شيك علي بياض .. تخيلي هتكوني فرحانه ازاي .. ولله المثل الأعلي ربنا اداكي 60 دعوة مستجابة في رمضان .. النبي صلي الله عليه وسلم قال :" ولكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة"
تمتمت "سامرين" وقد اقشعر بدنها :
- سبحان الله
فأكمل "مهند" مبتسما :
- تعرفي ان في الأيام العادية ربنا ينزل الي السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ويقول هل من سائل يعطي .. هل من مستغفر يغفر له .. هل من تائب يتاب عليه .. لكن في رمضان ربنا بينزل الي السماء في آخر ثلثين من الليل .. يعني الفرصة أكبر في اجابة الدعاء
ثم أكمل :
- تعرفي ان ليلة القدر اللي هي 12 ساعة خير من 1000 شهر .. يعني خير من 720،000 ساعة يعني تقريبا مليون الا ربع ساعة .. يعني اللي يفوته أجرها يبقي محروم فعلا .. لان ساعة واحدة عبادة فيها أفضل من انك تعبدي ربنا 60،000 ساعة في الأيام العادية .. وآية واحدة من القرآن تقرأيها فيها أفضل من انك تقرأي 60،000 آية في الأيام العادية .. و تركعي ركعة واحدة فيها أفضل من ركوعك 60،000 ركعة في الأيام العادية .. ولو فطرتي فيها صائم هتاخدي أجر أعلي من انك تفطري 60،000 صائم في الأيام العادية
تمتمت "سامرين" بتأثر :
- سبحان الله .. يعني الثواب ده كله الناس بتضيعه .. في ناس كتير بتفتكر ان رمضان هو صيام عن الأكل والشرب وبس .. وبيضيع منهم الثواب الكبير أوي ده
ربت "مهند" علي ظهرها قائلا :
- مش عايزك تضيعي الأجر ده .. عايزك تستغلي كل لحظة في رمضان .. عارفه ليه ؟
نظرت اليه فابتسم بعذوبة وقال بحنان :
- عشان نفسي نكون مع بعض في الجنة .. في نفس الدرجة .. ونفس المكان .. مش عايزك تتأخري عني
نظرت اليه مبتسمة وقد لمعت عيناها بالعبرات تأثرا
**************************
أتي العيد حاملا البهجة والسرور .. وبشريات الرحمة والمغفرة والعتق من النيران .. لكن شاءت الأقدار أن يقلب "حمدي" الفرح والسرور الي حزن وألم .. فبمجرد أن أتاه خبر وفاة والده الذي كان قاطعا عن وصله .. حتي طرب قلبه للميراث الذي أتي اليه علي طبق من فضة .. تغير الحال وبدأ "حمدي" يعلنها صراحة في وجه "مهند" :
- طلق بنتي .. انت مش من مستواها .. أنا ورثت في أبويا .. وعايز بنتي تعيش مرتاحه
قال "مهند" بوجوم :
- وأنا هعيشها مرتاحه .. مش هحرمها أبدا من حاجه
ضحك "حمدي" بسخرية قائلا :
- بأمارة ايه .. اذا كنت لحد دلوقتي بقالك أكتر من سنة معرفتش تجيب الا أوضة نوم
قال "مهند" بإقتضاب :
- ان شاء الله هجهز باقي الشقة في أقرب وقت
لكن "حمدي" قال ببرود حازم :
- وأنا مش هستني عليك أكتر من كدة .. بنتي يتمناها شباب كتير .. ايه يخليني أرميها الرمية دي
ثم قال بحزم :
- طلق بنتي يا "مهند" ده آخر كلام عندي
عندها تحول "مهند" الوديع الي وحش كاسر .. غلت الدماء في عروقه ونهض وهو يرمق "حمدي" بنظرات قاتله وهو يقول بصرامة شديدة :
- مش هطلقها .. وده آخر كلام عندي
وكــانت الحــرب !
***********************
صرخت "سامرين"بألم وهي تتلقي من "حمدي" احدي الصفعات القوية علي وجهها وهي تقول :
- برده مش هقوله يطلقني
فما كان من "حمدي" الا أن خلع حزام بنطاله وهوي به فوق جسدها .. أخذت تصرخ بألم وهي ترجوه أن يتوقف فصاح قائلا :
- اللي قولته يتنفذ .. هتطلعي للتييييييييت ده وتقوليله انك مش عايزاه .. وتطلبي منه الطلاق
بكت بحرقة واختلط بكائها بأنين عظامها المتألمة وهي تقول :
- حرام عليك يا بابا .. أنا مش عايزاه يطلقني .. أنا مش عايزة أتجوز غيره .. أنا راضيه بعيشته دي
صاح في وجهها بغضب قائلا :
- مش بمزاجك يا تييييييييت .. الحق عليا اني عايزلك جوازه تتشرفي بيها .. حاجه ترفع الراس مش الواد التييييييببييت ده
قالت بحزم ودموعها تتساقط فوق وجهها :
- وأنا مفيش راجل في الدنيا دي يملي عيني غير "مهند"
جذبها والدها من ذراعها فصرخت متألمة .. أوقفها والتقط اسدالها وألقاه في وجهها قائلا بصرامة وهي يرفع اصبعه مهددا :
- قسما بالله لو ما طلعتي دلوقتي قولتيله يطلقك لأكون مموتك بايدي
صعدت "سامرين" وهي تبكي وتأن من ألم جسدها وألم قلبها .. فتحت أم "فريدة" الباب فهالها وجهها الباكي وتلك الكدمات علي وجنتها فشهقت بقوة قائله :
- ايه اللي حصل يا "سامرين" .. أبوكي ضربك ؟
توجه "مهند" الي الباب فزعا بعدما سمع والدته .. اتسعت عيناه دهشة وهو يراها علي هذا الحال .. بمجرد أن رأته "سامرين" اندفعت بقوة تلقي بنفسها فوق صدره وهي تبكي قائله بصوت مرتجف :
- عايزني أقولك تطلقني .. أنا مش عايزة أطلق يا "مهند" .. مطلقنيش
أحاطها بذراعيه وقلبه يحترق علي ما أصابها من والدها .. مسح علي رأسها ثم ضمه اليه بقوة وهو يقول :
- متخفيش مش هطلقك
رفعت وجهها الباكي تنظر اليها برجاء قائله بصوت مرتجف :
- خليني هنا .. متنزلنيش عنده تاني .. لو نزلت هيموتني .. خليني هنا يا "مهند" أنا مش عايزة أبعد عنك
نظر "مهند" الي والدته التي قالت بحيرة :
- والله ما أنا عارفه الحل ايه .. بس لو مرجعتيش يا "سامرين" هتبقي حريقه
صاحت "سامرين" بحده :
- هيعمل فيا ايه أكتر من كدة
ثم التفتت الي "مهند" واضعة كفيها فوق صدره وهي تنظر اليه برجاء قائله :
- متسبنيش يا "مهند" .. احنا متجوزين .. محدش له حاجه عندنا .. اللي بيعمله ده ميرضيش ربنا .. خليني هنا .. مش عايزه أعيش معاه تاني .. ونقول للناس كلها ان احنا خلاص اتجوزنا .. عشان خاطري مترجعنيش له تاني
تنهد "مهند" بقوة وهو يقبل جبينها قائلا :
- متخفيش .. مش هخليه يأذيكي تاني
جلس "مهند" بجوارها علي الفراش يمسح علي شعرها بيده يرقيها حتي غطت في النوم .. أخذت أصابعه تتحسس بحنان ذلك اللون الأزرق الذي ظهر في أماكن متفرقه علي ذراعها .. تنهد بأسي وهو يقبل جبينها برفق .. ثم يحمل الكوب الفارغ الموضوع بجوار الفراش وينهض مغادرا الغرفة وهو يغلق الباب في هدوء .. التفتت اليه أمه الجالسه علي الأريكة لتقطع شرودها قائله :
- نامت ؟
هز رأسه ايجابا وهو يضع الكوب في المطبخ ثم يعود ليلقي بنفسه فوق أحد المقاعد وهو يسند جبينه الي قبضة يده ويغرق في التفكير .. قالت أمه بقلق :
- "حمدي" مش سهل .. مش هيعدي الموضوع ده علي خير .. مش هيسكت ويرضي بالأمر الواقع
رفع "مهند" برأسه ونظر اليها قائلا بحنق وغضب :
- كنتي عايزاني أعمل ايه يعني .. أرجعهاله عشان يموتها .. انتي مشفتيش وشها ودراعها عاملين ازاي وأكيد باقي جسمها كمان متبهدل
ثم قال بحزم :
- أنا مش هطلق مراتي وأعلي ما في خيله يركبه
نهضت أمه وهي تشعر بالأسي الممزوج بالحيرة لهذا الوضع الذي وصل اليه الأمر .. دخلت غرفتها واستلقت علي فراشها بينما أحضر "مهند" المرتبة وأزاح الطاولة الصغيرة ليفترشها علي الأرض كعادته ويتوسد يديه محاولا التفكير في حل للخروج من هذا المأذق
في الصباح توجه "مهند" الي عمله بعدما قال لوالدته :
- خلي بالك منها يا ماما .. لو حصل مشاكل كلميني علي طول
في الظهيرة فوجئ بسيارة شرطة تقف أمام دكانه ويتوجه اليه أحدهم قائلا :
- انت "مهند...."
قال "مهند" باستغراب وهو ينظر الي ملابسه الميري والي السيارة التي تقف بالخارج :
- أيوة أنا
أشار رجل الشرطة الي السيارة قائلا :
- طيب اتفضل معانا شويه
قال "مهند" بقلق :
- خير في حاجة
قتل الضابط :
- في اتهام متوجهلك ومطلوب أقوالك
قال بدهشة :
- اتهام ايه
قال الظابط وهو يشير الي السيارة :
- اتهام خطف واغتصاب بنت أبوها مقدم فيك شكوي
تجمدت ملامح "مهند" واضطرب وهو متوجه الي السيارة .. شعر بالغضب الشديد وهو جالس في مكتب الضابط الذي يستمع الي أقواله بعدما أخبره بأن "حمدي" اتهمه بخطف "سامرين" واغتصابها .. قال "مهند" بغضب :
- الكلام ده محصلش .. وبعدين دي مش خطيبتي زي ما أبوها بيقول في المحضر .. دي مراتي
توجه "مهند" الي بيته لاحضار قسيمة الزواج التي تثبت أنه زوج "سامرين" وليس خطيبها كما ادعي "حمدي" .. أغلق المحضر دون توجيه تهمة الي "مهند" .. جلست أمه تبكي في غرفتها فاقترب منها قائلا :
- خلاص يا ماما حصل خير
قالت بفزع بصوت باكي :
- قولتلك الراجل ده قوي .. ومش هيسكت .. يا ابني أنا خايفه عليك .. أبوك مكنش بيحب "حمدي" أبدا وكان بيقول عليه انه واحد ميعرفش ربنا .. خايفه يأذيك يا ابني
قال "مهند" بحزم :
- ميقدرش يعملي حاجه .. وآدي المحضر بتاعه نزل علي فشوش
قالت أمه بقلق بالغ :
- انت فكرك الموضوع هيقف علي كده .. أكيد مش هيقف
تنهد "مهند" قائلا:
- يعني أعمل ايه يا ماما .. أطلق مراتي عشان يرتاح .. أنا مش ممكن أطلق "سامرين" .. انتي عارفه أنا بحبها أد ايه .. وهي بتحبني أد ايه .. محدش فينا يقدر يعيش من غير التاني .. أنا عندي أموت ولا اني أطلقها وأسيبها تتجوز واحد غيري
تنهدت أمه في حيرة وأسي .. نهض "مهند" ودخل الشرفة ليجد "سامرين" واقفة في وجوم تسقي الزهرة التي تفتحت وأينعت وظهر جمالها .. فقال "مهند" بمرح وهو ينظر اليها :
- انتي عاملة زي الوردة دي بالظبط .. كبرتي وحلويتي ومحتاجة اللي يقطفك .. تسمحيلي أقطفك ؟
التفتت تنظر اليه بأعين دامعة ثم عادت لتسقي الزهرة .. اقترب منها وجذبها من يدها الي أن أجلسها علي أحد المقاعد وجلس جوارها وقال:
- متخفيش .. كل حاجة هتتصلح
بكت وهي تقول :
- خايفة أوي يا "مهند"
مسح علي ظهرها قائلا بحنان :
- خايفة وأنا معاكي
قالت بلهفة ممزوجة بالخوف والقلق وهي تتطلع الي عيناه تتشبث بهما :
- خايفه تعمل اللي بابا عايزه .. خايفه يضغط عليك لحد ما فعلا تطلقني .. عشان خاطري متسبنيش
خفق قلبه و احتوتها عيناه وهو يمسح عبراتها بأصابعه ويقول برقه :
- مش ممكن أطلقك مهما عمل فيا .. متقلقيش .. مش عايزك تخافي
ابتسم في وجهها بعذوبه فبثت ابتسامته الأمل فيها وابتسمت له برقه .. فاتسعت ابتسامته قائلا :
- أيوة كده خلي الدنيا تنور
مد يده مشبكا أصابعه بين أصابعها ثم رفعهما أمام وجهها قائلا بثقة:
- شايفه دول .. مستحيل حد يقدر يفكهم من بعض
اتسعت ابتسامتها وضغطت علي يده بأصابعها بقوة .. ففعل مثلها .. فتعانقت العيون والقلوب والأرواح
*********************
شعر "مهند" وكأن الدنيا تنهار من تحت أقدامه وهو يري دكانه وقد دك دكا .. والناس واقفه تضرب كفا بكف مشفقين علي مصدر رزقه الذي تحول الي فتات .. لم يجد في الدكان أي شئ سليم كل شئ مكسور .. وما لم يتكسر تحول الي رماد بفعل الحريق الذي ساعد أهل الحي علي اخماده .. وجد جملة مكتوبه علي جدار المحل من الخارج بألوان الطلاء :
- مش هخليكوا تتهنوا وهفضل وراك لحد ما تنفذ اللي أنا عايزه يا تييييييييييت
احتقنت الدماء في وجه "مهند" وهو يتمتم :
- انا لله وانا اليه راجعون .. اللهم اجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها
وقف "مهند" مع الشرطة التي تعاين الدكان .. رأى فجأة أمه مقبله تجاهه في لوعة وهي تتحسسه قائله بفزع :
- فيك حاجة يا ابني .. انت كويس
طمأنها قائلا :
- متقلقيش يا ماما الحمد لله أنا كويس
شهقت بقوة وهي تري دكان ابنها الذي تحطم وتهشم واحترق .. بكت وهي تقرأ الرسالة المكتوبة علي الجدار وتهتف :
- حسبي الله ونعم الوكيل .. ربنا ينتقم منه شر انتقام .. ربنا ينتقم منه .. منه لله الظالم المفتري
قال "مهند" بقلق وهو يتلفت حوله :
- ماما فين "سامرين" ؟ اوعي تكوني سبتيها لوحدها
قالت باكية :
- في البيت .. لما الجيران قالولي علي اللي حصل محستش بنفسي الا وأنا بلبس وبجري عليك .. منه لله .. منه لله
قال "مهند" بقلق :
- طيب يا ماما ارجعي البيت دلوقتي أنا خايف يعمل حاجة في "سامرين"
في تلك اللحظة نزلت "سامرين" باكية الي بيت والدها طرقت الباب في خوف وتوتر .. انتفضت بعدما فتح لها "حمدي" الباب .. نظرت اليه في ترقب للحظات تخشي أن يضربها .. ثم قالت :
- بابا لو سمحت ممكن نتكلم
نظر اليها بإحتقار قائلا :
- مفيش كلام بيني وبينك يا تييييييييييت .. اما علمتك الأدب انتي وهو مبقاش أنا
قالت باكية بقلب مفطور ودموعها تنهمر بغزارة :
- ليه يا بابا .. ليه .. أنا مش عايزة أطلق .. أنا راضيه بعيشة "مهند" ليه عايزني أسيبه .. أنا مش حابه أعمل حاجة غصب عنك .. بس خوفت أرجع من غير ما يطلقني تقوم تعمل فيا حاجة أو تضربني تاني
قال بحدة وهو يجذبها من ذراعها ويغلق باب البيت بقوة :
- كدة كدة هقتلك يا تييييييييت .. خليتي الكلب ده يشمت فيا ويرفع عينه في عيني .. طبعا ما هو خد منك اللي هو عايزه وقدر يلوي دراعي
قالت بسرعة متجاهلة أظافره المحشورة في ذراعها :
- لا يا بابا .. "مهند" ملمسنيش
صمت للحظات ثم صاح بغضب :
- فاكراني هصدق كلامك ده
قالت بحماس :
- والله العظيم والله العظيم ملمسنيش .. الأيام اللي فاتت دي كنت ببات في أوضه لوحدي وهو كان بينام في الصالة علي الأرض
هدأت ثائرة "حمدي" وشعرت بأظافره يخف انغماسها داخل لحم ذراعها .. فقالت بألم :
- "مهند" مش عايز يكسر عينك يا بابا .. ولا عايز يبقي في مشاكل بينك وبينه .. رغم اني قولتله نعلن للناس اننا خلاص اتقفل علينا باب واحد .. بس مرضيش .. قالي انتي مش عاملة عملة عشان أخدك من بيت أهلك من غير فرح .. بس خلاني أعده عندهم عشان كان خايف عليا منك
ظنت أن تلك الكلمات من شأنها أن تسد الفجوة بين "حمدي" و "مهند" ويري "حمدي" في "مهند" الشهامة والرجولة .. لكنه لم يكن يبحث عن الشهامة والرجولة بل كان يبحث عن شئ آخر .. رفع اصبعه محذرا في وجهها وهو يقول بحدة :
- اسمعيني وافهمي الكلام اللي هقولهولك كويس .. أنا شاركت رجل أعمال غني همسك أنا الشغل بره مصر وهو يمسك الشغل جوه مصر .. الراجل ده كلمني انه عايزك لابنه وأنا قولتله انك مكتوب كتابك وبعدين رجعت قولتله ان حصل مشاكل بينك وبين خطيبك واطلقتوا
نظرا "سامرين" الي والدها بدهشة فأكمل بصرامة :
- ومن ساعة ما عرف وهو عايز ييجي يزورنا هو وابنه وانا عمال أأجل لحد ما نخلص من المصيبة اللي اسمها "مهند" ويحل عنك وعني
ظهر الغضب علي محياه وهو يقول :
- الراجل ده عايز أمسك فيه بايدي وسناني لان الشغل معاه هينقلني ناقله تانيه خالص .. ولو في نسب بينا أكيد العلاقات هتبقي أحسن وهيفكر دايما ان أنا أولي من غيري غيري بشراكته .. ده غير ان ابنه مرتاح وهيجبلك اللي انتي عايزاه .. يعني هتعيشي أحسن من العيشة اللي "مهند" بتاعك ده هيعيشهالك 100 مرة
ضمت "سامرين" شفتيها الي بعضهما بقوة ثم قالت لحزم :
- أنا مش عايزه راجل غير "مهند"
أمسك بذراعها مرة أخري لكن هذه المرة لواه خلف ظهرها فشهقت ألما وهو يقول بغضب :
- قسما بالله لو ما طلقك لكون مدبرله حادثه تجيب أجله .. ولا أدبرله مصيبة ترميه في السجن وساعتها هطلقك منه وأخليكي ترفعي قضية تفريق ورجلك فوق رقبتك
شعرت "سامرين" بالخوف وقالت باكيه :
- عشان خاطري يا بابا سيبنا في حالنا .. عشان خاطري .. كفايه اللي حصل في دكان "مهند" أنا واثقه ان انت اللي حرقتهوله
صاح بغضب وهو يزيد من لي ذراعها :
- أيوة أنا اللي حرقتهوله .. والمرة الجاية هحرقه هوه
تركها فأخذت تفرك ذراعها وامارات الألم علي محياها .. ثم قال وهو ينظر اليها بغضب :
- قدامك 3 أيام تقنعيه فيهم انه يطلقك يا اما انتي عارفه أنا هعمل ايه
بكت تتوسل اليه لكن دون جدوي فتح الباب ودفعها قائلا :
- وعلي الله تخليه يلمسك يا تيييييييييت والله ساعتها أقتلك انتي وهو
أغلق الباب في وجهها بعنف فصعدت مترنحة مرتعشة الي المكان الوحيد الذي تشعر بأنه بيتها !
*******************
عادت أم "فريدة" من الخارج فاستقبلتها "سامرين" بلهفة قائله :
- خير يا ماما .. "مهند" كويس ؟
قالت باكية :
- أبوكي حرقله الدكان .. كسرله كل حاجه .. الواد هيموت بحسرته
أجهشت "سامرين" في البكاء وهي تكتم فمها بكفها .. لحظات وفتح الباب ليدخل "مهند" فاندفعت تجاهه تعانقه وتهتف باكيه :
- أنا آسفه .. أنا آسفة
ربت علي ظهرها قائلا وقد بلغ التعب منه مبلغه :
- بتتأسفي علي ايه .. انتي ملكيش ذنب في حاجه
قالت أم "فريدة" بغيظ :
أبوكي سيبله رساله علي الحيطة بيهدده ورغم كدة "مهند" مرضيش يشتكيه رغم انه متأكد ان هو اللي حرقله الدكان
رفعت "سامرين" رأسها تنظر اليه بأعين دامعة متسائله فمسح على ذراعيها قائلاً :
- مرضتش أقيد النار أكتر ما هى قايده .. لو اشتكيته يبقى بقطع أى أمل فى ان الأمور تتصلح بينا وبينه
دفنت وجهها فى صدرة وهى تبكى بحرقة فمسح على شعرها قائلاً وهو يتنهد بقوة :
- الحمد لله على كل حال .. الحمد لله
نظرت اليه قائله :
- هتعمل ايه دلوقتى ؟
خفق قلبها بقوة .. لأول مرة تلمح الدموع في عينيه .. تلمح الحيرة والضعف والعجز .. لم يجيبها بل توجه الى الحمام وأغلقه .. وقف تحت الدش يحاول أن يستجمع شتات أفكاره .. ويفكر فى حل لهذه المصيبة التى قضت على مصدر رزقه .. انسابت عبراته الساخنة مع المياة الجارية لتمحو أثرها سريعاً .. خرج ليجد "سامرين" واقفة فى المطبخ تعد له الطعام فتمتم قائلاً :
- متتعبيش نفسك مليش نفس
توقفت عما تفعل وهى تنظر الى بأسى .. هم بالتوجه الى فرشته ليحملها فهتفت قائله :
- نام فى الأوضة .. أنا مش هنام دلوقتى
بدا وكأنه من التعب لا يستطيع المجادلة .. توجه الى الغرفة وألقى بنفسه فوق الفراش .. انتفض وهو يشعر بها تحكم وضع الغطاء على جسده .. ابتسم لها بوهن .. بضعف .. ابتسامه حملت الكثير من الألم وقلة الحيلة .. بادلته مثلها .. وخرجت من الغرفة !
****************************************
بما تبقى معه من مال حاول اعادة ترميم الدكان من الداخل .. واتفق مع عدد من التجار الذى يعرفونه ويعرفون أمانته فى التعامل وسمعته فى السوق أن يأخذ منهم بضاعة بالآجل .. يضعها فى المحل ويدفع لهم على دفعات .. حمد الله أن يسر له ذلك .. وبدأ يستبشر خيراً .. لكن توالت المصائب فوق رأسه عندما داهمته الشرطة مصحوبة بأمر بتفتيش الدكان .. هاله ما وجده رجال الشرطة من أكياس صغيرة تحتوى على مسحوق أبيض .. هتف قائلا :
- ايه ده ؟
قال الضابط بحده :
- مش عارف ايه ده يا تيييييييييييييييت .. خدوه على البوكس
فمنطق بعض رجال الشرطة هو أن المتهم متهم حتى تثبت براءته ! .. اتصل بوالدته وهو فى سيارة الشرطة وأخبهرا بما حدث ثم اتصل بأحد جيرانه ممن يعملون فى مهنة المحاماة وطلب منه الحضور الى قسم الشرطة .. اندفعت "والدته برفقة "سامرين" الى قسم الشرطة تبحث عنه .. شعرت "سامرين" بمغص حاد فى بطنها وهى تعلم علم اليقين بأن والدها هو من دبر له هذه المصيبة كما هدد .. بعد عدة ساعات من الاستجواب والفحص و انتظار تقرير المعمل الجنائي .. تبين أن .. المسحوق ما هو الا دقيق ! .. لكنها كانت من الذكاء لتفهم الرسالة التى أرسلها والدها .. فهذه المرة قرصة ودن .. لكن التالية لن تكون كذلك .. وفى حاةل من الوجوم والأسى عاد الجميع الى البتي منهكون القوى .. صامتون وكأن على رؤسهم الطير .. لم يعد يجد أحدهم كلمة مواساة ليقدمها للآخر .. توجه كل منهم الى فرشته .. والدمعة فى عينيه !
لم تنم "سامرين" فى تلك الليلة .. بقيت ساهرة زاهدة النوم .. توضأت ووقفت بين يدي الله تبكى وتشكو له ضعف حالها وهوانها على الناس .. كانت تشعر بأنها كالطير المذبوح فى عنقه .. ستألم ويدور حول نفسه غير عالم بوسيله لتخفيف ألمه أو لوقف نزيف دمه .. هتف قلبها قائلا .. انت كنت لا أستطيع مداواة جروحى .. فعلى الأقل أحمى من تهفو اليه روحى .. أخذت العبرات تتساقط فوق وجنتيها .. تحرقها .. تلسعها .. دون ان تهتم بمسحها .. ظلت تنزف دمعاً الى أن نضبت الدموع فى عينيها .. سمعت طرقات خفيفة على باب الغرفة فنهضت من فوق الأرض لفتحه .. وجدت أم "فريدة" تنظر اليها بأعين دامعة وتغلق الباب خلفها .. ثم تقول بصوت باكى :
- "سامرين"
قالت "سامرين" بخفوت :
- أيوة يا ماما
قالت أم "فريدة" وهى تبكى :
- أنا اللى مربياكى من يوم ما أمك ماتت .. عمرى ما بخلت عليكي بحاجه .. ربا يعلم لو كانت "فريدة" بنتى عايشه معايا مكنتش هعاملها أحسن من كده
تساقطت العبرات من عيني "سامرين" بعد أن ظنت أن دموع عينيها قدنشفت من كثرة البكاء .. لكن اتضح لها أن هناك المزيد ! .. أكملت أم "فريدة" بلوعة :
- ابنى هيضيع منى .. يرضيكى ان "مهند" يضيع منى .. أنا مليش غيره بعد ربنا .. كان هيتسجن النهاردة .. لو كانوا لقوا مخدرات بدل الدقيق مكنش رجع معايا النهاردة
ثم أجهشت فى البكاء قائله :
- كان ممكن يبقى بايت النهاردة على البورش مع المجرمين والحراميه
اختلط صوت بكاء الاثناتان ببعضهما البعض .. فاقتربت أم "فريدة" من "سامرين" وأمسك كفها قائله :
- حلفتك بالله لتبعدى عن ابنى عشان أبوكى يسيبه فى حاله
نظرت اليها "سامرين" وكأنها تتمزق .. تحترق .. فقالت أم "فريدة" بأسى :
- أرجوكى يا "سامرين" .. أرجوكى يا بنتى . .أنا عمرى ما طلبت منك حاجة .. بالله عليكى مضيعيش "مهند" منى ده أنا ممكن أروح فيها
بكت المرأة مرة أخرى وهى تنظر اليها بألم قائله :
- أبوكى مش هيسيبه فى حاله .. أبوكى شرانى وأنا عارفاه من زمان .. لو بتحبى "مهند" هتخافى عليه ومش هتسمحى لحاجة تأذيه .. لو بتحبى ابنى بجد ابعدى عنه يا "سامرين"
أطرقت "سامرين" برأسها ولا تزال عبراتها تتساقط .. أغمضت عينيها للحظات ثم تمتمت بشفتين مرتجفتين :
- حاضر
رق قلب أم "فريدة" لحالها .. لكنها تمالكت نفسها وخرجت من الغرفة تغلق الباب خلفها .. لتتساقط "سامرني" فوق الفراش تتظر الى سقف الغرفة وقد أيقنت منذ هذه اللحظة أنها ستعيش ما تبقى من حياتها بجسد بلا روح !
*****************************************
هتفت أم "فريدة" قائله :
- "مهند" .. "مهند"
خرج من الحمام وتوجه اليها فقالت بدهشة :
- "سامرين" مش فى البيت
قال بدهشة :
- ازاى يعني ؟
قالت بحيرة :
- قمت ملقتهاش
ترك "مهند" المنشفة ونزل بسرعة الى الأسفل وطرق الباب بعصبية وتوتر .. اندهش عندما رآها تفتح له الباب فقال :
- "سامرين" بتعملى ايه هنا .. ليه نزلتى من غير ما تقوليلى ولا حتى تعرفى ماما
قالت وهى تحاول رسم البسمة فوق ثغرها :
- مفيش .. بابا وحشنى ونزلت أشوفه
قال بقلق :
- عملك حاجة ؟
اتسعت ابتسامتها وهى تقول :
- لا أبدا .. اتصالحنا خلاص
ابتسم وهو يقول :
- طيب كويس الحمد لله
اختفت ابتسامته عندما رأى "حمدى" خلفها .. انتبه لأول مرة الى ملابسها وقال :
- انتى خارجه
قالت وهى تنظر الى أبيها :
- أيوة خارجه مع بابا
ثم ابتسمت قائله بمكر :
- بابا وعدنى انه هيشتريلى لبس وحاجات كتير بمناسبة اننا اتصالحنا
ابتسم دون تعقيب .. نظر اليه "حمدى" بحدة وهو يغلق الباب ويتوجه مع "سامرين" الى السيارة الجديدة التى اشتراها .. ركبت "سامرين" بجوار والدها وانطلق بها تحت أنظار "مهند"
*****************************************
وقف "مهند" فى الشرفة يتمشى يمينا ويسارا فى عصبية .. ينظر الى ساعته بني الحين والآخر :
- دخلت أمه الشرفة وقالت :
- لسه مجتش برده
نظر اليها ثم هز رأسه نفيا .. ثم اخذ يطرق بقبضته على السور بقوة .. فقالت أمه :
- معلش زمانها جايه
التفت اليها يقول بغضب :
-جايه ايه وزفت ايه كل يوم على ده الحال
قالت أمه بحزن :
- ما هى مع أبوها يا ابنى مش مع حد غريب
سمع صوت سيارة فالتفتت ليجد سيارة يراها لأول مرة .. لحظات ورأى "سامرين" تهبط منها .. نزل مسرعا ووقف أمام البوابة ليرى "حمدى" يتضاحك مع رجلين فى السيارة أحدهما كبير والآخر شاب فى مقتبل العمر .. نزل "حمدى "وتوجه مع "سامرين" الى البناية .. ألقى على "مهند" نظرة ساخرة وهو يقول ل "سامرين" :
- متتاخريش
دخل البناية بينما وقفت "سامرني" فى مواجهة "مهند" الذى قال :
- مين اللى انتوا جايين معاهم دول
قالت وهى ترسم على شفتيه اابتسامة واسعة :
- ده صاحب بابا وابنه .. رجل أعمال كبير أوى وابنه كمان رجل أعمال زيه
أومأ برأسه وهو يعض على شفتيه ثم قال :
- جيتوا معاهم ليه ؟
قالت بمرح :
- أصل عربيتنا عطلت فهما وصلونا .. اسكت يا "مهند" لو شوفت بيتهم هتتجنن .. حاجة كده وهم مبنشفهاش الا فى الكتالوجات
ظل صامتا وهو ينظر اليها فأكملت بمرح وهى تخرج علبه من حقيبتها قائله بسعادة :
- شوف جابلى ايه
فتحت العلبة الظهيرة ليظهر خاتم ذهبى .. عقيد جبينه بقوة وهو يقول :
- مين اللى جابهولك
قالت وهى تتناول الخاتم أمام ناظريه وتضعه فى اصبعها قائله :
- صاحب بابا
قال بحده :
- وجابهولك ليه ان شاء الله
قالت بمرح :
- عشان نجحت .. جابهولى بمناسبة نجاحى
قال بدهشة ممزوجة بالضيق :
- ازاى يعني ؟ .. أنا لسه كنت فى كليتك النهاردة وقالولى ان النتيجة مبنتش
قالت بتفاخر :
- أصل صاحب بابا وابنه دول ما شاء الله ناس واصلين ويعرفوا دكاتره عندى فى الكلية فجابوهالى من الكنترول
شعر "مهند" بغصة فى حلقه وهو يقول :
- مبروك .. كان نفسى أبقى أول واحد يقولهالك
قالت مبتسمة :
- الله يبارك فيك
توجهت للداخل فتبعها .. وقفت أمام باب بيتها وقالت :
- تصبح على خير
التفتت فسمعته يقول هامسا :
- وحشتيني
أغمضت عينيها وهى توليه ظهرها .. ظهر الألم على محياها وهى تبلع ريقها بصعوبة شاعرة وكأن روحها تتمزق .. التفتت وقالت وهى ترسم بصعوبة ابتسامة على شفتيها بصوت حاولت أن يبدو باردا :
- وانت كمان .. تصبح على خير
دخلت وأغلقت الباب خلفها مسرعة قبل أن يرى عبراتها التى أخذت فى الانهمار .. وقفت ساكنة فى مكانها خلف الباب لا تتحرك .. لم تدرى كم مر عليها وهى واقفة مستندة بظهرها الى الباب .. لكنها رأت والدها يعبر الصالة بمنامته وهو يقول بحدة :
- مش هنخلص من الموضوع ده بأه .. قولتيلى اصبر وآديني صابر .. بس لحد امتى .. خلاص سفرنا قرب والواد مسافر معانا بس عايز يبقى فى ارتباط قبل ما نسافر .. يعني على الأقل تلبسوا دبل هنا وسط أهله .. ولما نسافر تبقوا تحددوا معاد الفرح
لم تجيبه "سامرين" بشئ .. توجهت الى غرفتها وألقت بنفسها فوق فراشها بملابسها .. وهى تتقوقع على نفسها فى نومة الجنين .. تغمض عينيها بشدة وهى تضم الغطاء الى صدرها بقوة
***********************************************
وقفت "سامرين" شاردة الى أن نزل "مهند" مرتديا بدلة رماديا خفق قلبها بشدة لمرآه .. ابتسم قائلاً وهو يعدل من وضع ربطه عنقه :
- يلا يا جميل
نظرت اليها بحنان واشتياق سرعان ما أخفته وهى تقول بصوت حاولت أن يبدو باردا :
- ايه ده يا "مهند" ؟
قال فى دهشة :
- فى ايه
قالت وعلى وجهها علامات الضيق وهى تشير الى بدلته :
- قولتلك اننا رايحين خطوبة بنت واحد صاحب بابا .. وقلتلك انه هيكون فى قاعة كبيرة
قال بدهشة وهى ينظر الى ملابسه :
- ما أنا عشان كده لبست بدلة
بلعت ريقها بصعوبة ثم قالت بحدة :
- بس شكلها بيئة أوى
عقد جبينه بضيق وقال :
- مش بيئة ولا حاجة يا "سامرين"
قالت بعصبية :
- لا بيئة وشكلها رخيص ومش قيمة .. ازاى هروح معاك كدة .. فى الحفلة هيكون فى ناس محترمة و .....
قاطعها قائلاً بصرامة :
- مش كل اللى معاه فلوس بأه محترم
قالت بتهكم :
- مش وقت فلسفة .. أنا مش هقدر أروح كده .. تعالى نشتريلك حاجة فى طريقنا
قال بوجوم وهو يشعر بألم يغزو قلبه وكأنها تسدد اليه طعنات تلو الأخرى :
- مش هينفع أشترى حاجة دلوقتى .. انتى عارفه انى بجهز الدكان من أول وجديد
قالت متأففة وهى تدخل البناية :
- خلاص مش مشكلة بأه مش هروح
قال بعتاب ونظراته تشع ألما :
- للدرجة دى يعني شايفه ان شكلى يكسف
خفق قلبها بقوة وتقطعت أنفاسها .. لكنها قالت بجمود :
- انا ما قولتش ان شكلك يكسف .. بس مش حبه ان حد يبصلنا بصه وحشه .. يعني أقصد .....
مقاطعا اياها .. تركها ودخل البناية .. غير قادر على سماع المزيد !
********************************
كعادته جلس على الاكل شاردا .. قالت والدته :
- كل يا "مهند"
أومأ برأسه دون أن يضع فى فمه شيئا فقالت بإشفاق :
- متخانق انت و "سامرين" ؟
قال بضيق :
- مش عارف ملها .. حاسسها متغيره .. متغيره أوى .. أكنها واحدة تانية .. من يوم ما رجعت لأبوها وعرفها بصاحبة وولاد صاحبه وأنا حاسسها متغيره معايا .. بارده .. وبعيدة .. وتفكيرها بأه غريب
عضت أمه على شفتيها وهى تنظر اليه بإشفاق غير قادرة على شرح سبب تغير "سامرين" .. نهضت وتوجهت الى المطبخ تعيد الأطباق التى لم ينقص منها الا القليل .. تنهدت وهى تتمتم :
- يارب .. يارب انت عارف الخير فين .. يارب
فتحت الباب فنظرا ليها بعتاب قائلاً :
- حرمانى منك ليه
تجمدت "سامرين" فى مكانها وهى تتأمل عيناه التى افتقدتهما بشده .. لكنها قالت مبتسمة :
- مفيش .. أنا موجودة أهو
أخرج من خلف ظهره باقة زهور وابتسم لها قائلاً :
- عشان حبيبتى
تعالت خفقات قلبها حبا له .. وماتت الكلمات فوق شفتيها .. ودت لو فعلت كما كانت تفعل من قبل .. وتتوجه اليه لتلقى بنفهسا بين ذراعيه ملقية برأسها فوق صدره .. لكنها منعت نفسها بصعوبة .. أطرقت برأسها تنظر الى الباقى فما كان منه الا أن جذبها الى المكان الذى كانت تحلم بالوصول اليه منذ قليل .. وبشق الأنسف .. وبمجاهدة لمشاعرها التى تأمرها بأن تبقى أسيرة بين ذراعية .. ابتعدت عنه برفق .. لكن بحزم .. نظر اليها قاءلاً :
- مالك اي "سامرين" .. متغيره معايا ليه ؟
قالت وهى تهرب من عينيه :
- بصراحة فعلا أنا حسه نفسى متغيره
أمسك بذقنها يرفع رأسها ليجبرها على النظر اليه وقال :
- ايه اللى مغيرك ؟
أبعدت كفه عن وجهها وقالت :
- بصراحة الفترة الأخيرة شوفت حاجات كتير خليتنى حسه اننا مش عايشين .. فى ناس عندما فلوس ملهاش حصر .. وعايشة فى أرقى الأماكن وبتاكل أحسن أكل .. ليه منكنش زى الناس دول .. بدل ما نبات واحنا قلقانين يا ترى هيكون معانا فلوس بكرة ولا لأ .. لما شوفت الناس دى حسيت انى نفسى أكون مرتاحه زيهم
قال "مهند" برفق :
- ومين قالك انهم مرتاحين .. الراحة مش فى الفلوس .. دى مظهر من بره .. لكن من جوه انتى متعرفيش هما سعدا ولا لأ .. شايلين الهم ولا لاء
قالت بتهكم :
- هم ايه اللى هيشيلوه .. انت بتتكلم كده عشان عمرك ما عيشت زيهم
قال بهدوء :
- وأنا مش عايز أعيش زيهم .. أنا كفاية عليا انى أعيش فى بيت صغير مع الانسانة اللى بحبها .. مش مهم عندى أى حاجة تانية غير انها تكون معايا .. تعيني وأعينها على طاعة ربنا .. واننا نكون أسرة نراعيها ونحامى عليها .. يا ترى هى كمان نفسها فى كدة .. ولا حسه ان مشاعرها اتغيرت وأحلامها اختلفت ؟
تنهدت بقوة قائله :
- مش عارفه
قال بألم :
- مش عارفه ؟
صمت للحظات ثم قال :
- طيب لما تعرفى قوليلى
تابعته بنظرات أسى وهو يغادر البناية
*****************************************
لم يشعر "مهند" بنفسه الا وهو يجذب "سامرين" من ذراعها بقوة بينما كانت واقفة أسفل البناية بصحبة والدها وصديقه وابن صديقه الذى أخذ يتطلع اليها بنظرات ألهبت النار فى نفس "مهند" وهو واقف ينظر اليهم من الشرفة .. توجهت معه الى داخل البناية بينما التفت والدها وقال بتوتر :
- كنا بنقول ايه ؟
قال شريكه بدهشة :
- مين ده ؟ .. وازاى تسمحله يمسك بنتك كده ويسحبها لجوه ؟
قال ابنه فى حدة وهو متوجه الى البناية :
- ازاى يا عمو سمحتله ياخد "سامرين" كدة
حاول "حمدى" أن يوفقه لكنه كان قد توجه الى الداخل ليجد "مهند" يتحدث بحدة الى "سامرين" فقال له :
- انت يا كابتن .. فى حد يمسك بنت ويشدها كده
التفت اليه "مهند" قائلاً بقسوة :
- وانت مال أهلك ؟
نظر اليه الشاب بتهكم وهو يقول :
- لا مالى ونص
ثم نظر الى "سامرين" قائلاً :
- تعالى يا "سامرين"
وقف "مهند" بينه وبينها وهو يدفعه فى كتفه قائلاً :
- اجرى العب بعيد
كاد الفتى أن يدخل معه ىف شجار لكن "حمدى" صاح فيه :
- خلصنا يا ابنى خلاص
فصاح الشاب :
- انت مش شايف قلة أدبه يا عمى
قال "مهند" بعنف وهو يدفعه فى كتفه :
- قلة أدب ايه اللى بتتكلم عنها .. مالك انت تتدخل بيني وبين مراتى
فتح الشاب فمه وهو ينظر اليه بدهشة قائلا :
- مراتك ؟ .. هو انت اللى كنت كاتب كتابك عليها ؟
قال "مهند" بحزم :
- ايه كنت ايه ؟ .. أنا جوزها ..أفندم بأه حضرتك عايز ايه ؟
رمق الفتى "حمدى" بتهكمم ثم نظر الى "مهند" قائلك :
- سورى أصل حماك العزيز قالنا ان بنته اطلقت .. وكنا النهاردة بنتكلم فى تفاصيل الجواز
التفت "مهند" بحدة غير مصدقا ما يسمع يتطلع الى "حمدى" الذى بدا على وجهه الضيق والحرج .. ثم يلتفت الى "سامرين" التى نكسف برأسها .. خرج الفتى وتوجه الى والده يخبره بما حدث فانطلقا فى طريقهما مغادرين المكان .. هدر "مهند" وهو يمسك بذراعها بحدة قائلاً :
- الكلام ده مظبوط ؟ .. انطقى ؟
ارتجف جسدها وشفتيها ولم تستطع النطق .. قال بغضب شديد وهو يلهث :
- معناه ايه الكلام ده .. بتتخطبى لواحد تانى وانتى على ذمتى .. مراتى . .انطقى .. معناه ايه الكلام ده
تدخل "حمدى" بغيظ شديد وقد أغضبه افساد "مهند" لهذه الويجة وصاح فيه :
- افهم ياللى ما بتفهمش .. البت مش عايزاك . .لو راجل و عندك كرامة طلقها
التفت "مهند" ينظر اليه بغضب ثم التفت ينظر الى "سامرني" قائلا وهو يشد على ذراعها :
- الكلام ده مظبوط ؟ .. انتى عايز تطلقى
صاح "حمدى" بتهكم :
- انت لسه هتسألها .. ده أعمى بصحيح
هتف فيها "مهند" بغضب :
- "سامرين" انطقى .. عايزه تطلقى ؟
بصوت مبحوح .. مرتجف .. مكسة الرأس قالت :
- أنا مكنتش عارفه ازاى أفاتحك فى الموضوع .. بس أنا .. أنا فكرت كتير .. وحسى انى اتسرعت شويه .. يعني .........
- انتى طالـــــق
توقف قلبها عن العمل .. وتمردت الدماء عن السير فى شرايينها لتغذى جسدها .. ترك ذراعها .. بقسوة .. بعنف .. وكأنه يلقيها من يده .. يلقها خارج حياته .. خرج من البناية يسير بغير هدى بخطوات مسرعة .. غاضبة .. جامحة .. وقفت للحظات ثم .. سقطت مغشيا عليها !
*******************************************
بأعين دامعة وقفت تنظر الى شرفة الطابق الثانى تودعها بعينها وبقلبها .. وضع والدها الحقائب فى السيارة وقال :
- ثوانى وراجع يا "سامرين"
ترك السيارة وتوجه الى أحد جيرانه ليودعه .. لم تشعر "سامرين" بنفسها الا وهى تسير فى اتجاه البحر .. الى تلك البقعة التى لطالما توجهت اليها .. تجمدت فى مكانها وهى ترى "مهند" هناك جالسا فوق الصخرة التى جمعتهما منذ أن أعلنا حبهما وتوج كل منهما الآخر بخاتمه .. رفعت كفيها تتحسس الخاتم الذى لا يزال فى أصابعها .. ثم نظرت الى "مهند" الذى يوليها ظهره بأعين دامعه وقلبها يهتف :
- سامحنى .. سامحنى يا حبيبى .. لم أستطع أن أقف فى صفوف المشاهدين بينما أبى يذيقك ألوان العذاب .. لم أستطع أن أتحمل رؤيتك وأنت تضيع وتنسل من بين أصابعى .. لم أستطع أن أرى الألم وقلة الحيلة فى عينيك .. سامحنى .. فأنت لست فقط حبيبى .. أنت كل أصحابى وأهلى وخلانى .. أخشى عليك حتى من تلك الرمال التى تتقاذفها الرياح فتلسعك .. يخفق قلبى هلعا وأنا أرى الخطر يدنو منك .. كيف تريدنى أن أقف متكتفة الأيدي غير عابئه بما يصيبك .. سامحنى .. لم أستطع أن أكون أنانية وأفكر فيما يريده قلبي .. لم أستطع أن أفكر فى نفسى .. حاولت .. لكنى لم أستطع .. والدتك محقة .. ان كنت أحبك حقا فسأبتعد عنك .. سأحميك منى ومما يصيبك بسببى .. سامحنى .. عش حياتك .. لكن أرجوك لا تنسانى
انسابت العبرات من عينيها وهى تغادر بسرعة قبل أن يلمحها و يلتقى بعينيها .. فتفضحها أمام عينيه !
شعرت "سامرين" بالصدمة وهى تقف فى مطار القاهرة بينما يقدمها والدها الى تلك المرأة ويقول :
- أقدملك "فيروز" مراتى
كانت فى حالة يرثى لها .. جلست فى مقعد الانتظار كمن ينتظر الحكم بالإعدام .. لاتدرى ماذا يبكيها أكثر .. زواج أبيها الثالث والذى لا تعلم عنه شيئاً .. أم سفرها وتركها لكل ما تحبه .. صعدت الطائرة بجسد خاوى .. وتهالكت فوق أحد مقاعدها وهى تتطلع الى الشباك مودعة تلك البلد التى قضت فيها 18 عاماً من عمرها
خرج "عدنان" من قوقعته بعدما هزه رحيل "فيروز" المفاجئ .. تعرف عليها من خلال العمل .. تقربت منه بعد الحادث الذى أصاب زوجته وابنه ورحلا على أثره .. تظارهت بأنه القلب الحنوان الذى سيحتوى آلامه وأحزانه .. كان يجد معها سلوى لأيامه .. هرب من كل شئ و أى شئ .. لربما كان السبب فى تقربه منها هو أنها لا تمت له بصلة .. كان يشعر فى تلك المرحلة بأنه يود الهرب حتى من نفسه .. استعاد عافيته ونشاطه بعدما أيقن بسخرية أنها ليست سوى مجرد كريستاله مزيفة براقة من الخارج لكن لا قيمة لها .. توجه الى القاهرة ليتسلم أعمال والده الراحل وميراثه الذى تركه من أجله .. باع كل ممتلكاته فى الاسكندرية حتى البيت الذى عاش فيه مع زوجته وابنه .. بدأ فى تكبير شركة والده والعمل على أن يصبح رجل اعمال ذا صيت ونفوذ .. فكان يرى فى عمله تعويض عن شعور النقص الذى خلفه رحيل أسرته الصغيرة
أما "فيروز" فكانت تعرف "حمدى" الذى كان بينه وبين "عدنان" أعمال مشتركة فى الاسكندرية .. تعبت من محاولة التقرب من "عدنان" وتليين رأسه واصطياده كزوج لها .. وبمجرد أن علمت بأمر ميراث "حمدى" من والده فنزعت شباكها من "عدنان" وألقتها على "حمدى" الذى كان اصطياده أكثر سهولة
عاش "مهند" لأربعة أشهر دون أن يستطيع أن يتخطى صدمته .. فالتفاة التى عشقها منذ أن تعلم العشق الهوى تركته من أجل دنيا زائلة تسعى ورائها .. بل طعنته فى قلبه وكرامته عندما وافقت على غيره وهى لا تزال فى عصنته ! .. لم تتحمل كرامته الجريحة وقلبه المطعون تلك الآلام فإنزوى بنفسه مبتعدا عن الجميع .. أصبح لا يرى من الحياة الا بيته وعمله وتلك الساعات التى يقضيها فى المسجد وهو يبث نحواه الى الله .. لكن الله أراد أن يزيد من ابتلاءه وعناءه .. مرضت والدته مرضا شديدا ألزم حضور "فريدة" لزيارتها .. كانت فى سكرات الموت .. ظل يدعو ويستغفر لها لكنه كان يعلم بأن أمر الله آت لا محالة .. لم تستطع وهى على فراشا لموت الا أن تعترف له بالحقيقة التى زلزلت كيانه وعصفت به :
- "سامرين" بتحبك .. بتحبك أوى .. ضحت بسعادتها وراحتها عشان تحميك من أبوها .. ازاى تتصور ان "سامرين" اللى اتعلمت الحب على ايديك ممكن تفرط فيك بالسهولة دى .. سامحنى يا ابنى .. أنا كمان قسيت عليها .. وقولتلها لو كانت بتحبك لازم تسيبك .. سامحنى يا ابنى .. بس خوفى عليك هو اللى خلانى أعمل كده
اختلطت دموع "مهند" على فقد والدته بدموعه على فقد زوجته وحبيبته .. لكم كان يتمنى أن يأتى هذا الاعتراف مبكرا قبل أن تنقضى أشهر العدة .. لكن أمر الله نفذ !
لم تصدق "سامرين" نفسها وهى تستمع الى صوت "مهند" عبر الهاتف وهو يقول :
- "سامرين" .. ليه سمعتى كلامهم .. ليه عملتى كده ؟
بكت بحرقة شديدة وهى تقول :
- أنا اسفه .. أنا اسفه .. بس كنت خايفة عليك أوى
لمعت العبرات فى عينيه وهو يتمتم بخفوت:
- ماما اتوفت يا "سامرين"
شهقت بقوة قبل أن تنفجر فى البكاء .. حاول تهدئتها لكنه فشل .. شعرت كما لو أن روحها تسحب منها .. أنهى المكالمة حتى تفرغ ما بها من شحنات عاطفية متأججة .. هدأت وسكنت نفسها بعد وقت طويل نائمة باكية على الفراش فى غرفتها دون أن يعبأ بها أحد .. رأت رقمه من جديد .. فردت بلهفه وبصوت مبحوح من كثرة البكاء :
- "مهند"
قال بلهفة :
- "سامرين" انتى كويس ؟
أومأت برأسها كأنه يراها ثم قالت :
- الحمد لله .. طمنى عليك
قال بأسى :
- الحمد لله على كل حال
صمت .. وصمتت .. ود لو قال لها كلاما كثيرا .. لكنه يعلم بأنها لم تعد حلاً له .. لم تعد من محارمه .. صارت غريبه عنه .. علمت سبب سكوته فتساقطت عبراتها وهى تتنهد بقوة .. قال "مهند" وهو يحاول السيطرة على عواطفه الجياشة التى يريد أن يبثها اياها :
- لازم نرجع لبعض
قالت بلهفة وكأن تلك الكلمة أحيتها من جديد :
- ازاى ؟
قال بحزم :
- هكلم أبوكى مرة واتنين وعشرة ومليون .. مش ممكن تكون لغيري يا "سامرين" .. فاهمة .. مش ممكن تكونى لغيري .. انتى ليا أنا وبس
أغمضت "سامرين" عينيها وهى تشعر بقلبها ينبض من جديد داخل صدرها بعد أن فقد معنى نبضاته .. كبح "مهند" كباح نفسه بقوة شديدة ولم يهاتفها بعد تلك المكالمة .. ظل يعمل ويجتهد حتى يستطيع انهاء عش الزوجية الذى طال تجهيزه .. هاتف "حمدى" كثيرا وفى كل مرة يقابل بالرفض القاطع .. لكنه لم ييأس .. ولن ييأس .. حاول "حمدى" تزويجها .. لكنها كانت مصره على الرفض .. مصرة اصرار شديد .. غير عابئه بأى شئ .. فلم يعد يفرق معها أى شئ .. حتى لو ضربها . .حتى ولو قتلها .. لن تتزوج رغما عنها .. لن تتزوج رجلاً غيره .. دون كلام أو وسيلة اتصال .. بقيت القلوب على اتصال .. تزوره فى منامه .. ويزورها فى منامها .. فيطفئ اللقاء بعد من نيران اللهفة والاشتياق ..
حتى أتى اليوم الأليم الذى طعنت فيه "سامرين" فى ظهرها بخنجر الخيانة من قلوب جبانه .. كانت البداية حادث رهيب هشم كل عظامها .. دخلت فى غيبوبة طويلة .. احتجات خلالها الى الكثير من العمليات الجراحية .. سقط "حمدى" بقلب نادم .. وبأعين باكية .. يتحسر على ابنته الوحيدة التى تموت أمام عينيه .. نصحه أحد الأطباء بسرعة أخذها الى أحدى المستشفيات الشهيرة فى تركيا .. حيث مجموعة من الأطباء الماهرين اللذين من شأنهم أن يعيدون له ابنته كما كانت .. وبلمح البصر طار من دبي الى تركيا .. غير عابئ بأعماله التى خلفها وراءه .. ومع "فيروز" المتبرمة على هذا التغيير المفاجئ .. خضعت فى تركيا للعديد من العمليات الجراحية .. التى استغرقت شهورا طوال .. دون أن يدرى الحبيب الولهان ما أصاب حبيبته من آلام .. هاتف والدها كعادته كل حين .. فزفر "حمدى" بضيق وهو يصيح وهو ينظر الى هاتفه دون أن يجيب غير عابئ بوجوده فى المشفى :
- يا أخى حل عنى بأه
قالت "فيروز" بإهتمام :
- مين ده يا "حمدى" ؟
قال بغضب :
- ابن خالها .. كل مرة أديله كلمتين فى جنابه وبرده يفوت كام شهر وألاقيه بيتصل تانى
زفرت بضيق وهى تقول :
- ناقصينه هو كمان
قال "حمدى" بغضب :
- أهى اتشوهت خليه يرتاح
ثم أمسك بهاتفه فقالت :
- هتعمل ايه ؟
قال بحده وهو يتصل ب "مهند" :
- هقوله على اللى حصل يمكن يحل عنها بأه
خطفت منه "فيروز" الهاتف وأغلقت الخط وهى تقول :
- مظنش انه هيحل عنها بالسهولة دى .. سيبلى أنا الموضوع ده .. بس لما "سامرين" تخف هخلصك من الواد ده خالص
مرت شهور أخرى ووضع "سامرين" فى التحسن .. شعر والدها بشعور غريب وهو يرى ملامحها التى بدلت من شكلها كثيراً حتى أنه لم يتعرفها عندما رآها .. بكت وهى تلمح تلك النظرة فى عيني والدها وقالت :
- أنا مش حبه شكلى كده .. انا عايزه شكلى القديم
جلس بجوارها مربتا على كتفها .. بكت "سامرين" بحرقة .. فتلك التربيته هى أقسى ما سفعله والدها .. لا يضمها الى صدره أبدا .. بكت وهى تتذكر ذلك الصدر الذى لطلما ضمها اليه .. ولطالما بكت فوقه .. صرخت شوقا اليه وقلبه ايهتف .. أحتاجك بشدة .. أحتاجك تعالى سريعا .. هتاف تعلم بأنه لن يفيد .. فلا هو سيسمعها .. ولا هو سيأتى .. نظرت الى والدها بألم .. ودت لو قذفت فى وجهه كلمات قاسية .. عنيفة .. لكنها شعرت بإنهاك منعها من التحدث .. ألقت برأسها فوق وسادتها تنظر الى سقف الغرفة وهى تغمض عينيها علها تحلم به .. وهو يضمها اليه .. فتختفى آلامها
بدأت الحية فى التفكير والتخطيط لبث سمومها فى أذن "سامرين" .. لم تكن تهتم بما فى صالح "سامرين" بقدر اهتمامها بنيل رضا "حمدى" الذى لم يكن سهلا كما تصورت .. لم يدع لها الحبل على الغارب فى تصرف فى ماله .. حتى عمله كان يحجبه عنها فلا تعلم حتى كم لديه فى البنك من أموال .. أرادت أن تثبت له بأنها شخص يعتمد عليه ويستحق ثقته .. وتعلم أن أكثر ما يؤرقه هو ذلك المدعو "مهند" والذى يتمنى من ابنته نسيانه محوه من ذاكرتها تماما .. فى أحد الأيام وبينما هما جالسان على مائدة الفطور قالت "فيروز" محاولة التذكر :
- "حمدى" انت فى مرة وانتى بتكلمنى عن "سامرين" قوللتى انها هبله ومبتعرفش تختار مين تقربه منها ومين تبعده عنها
توقف عن المضغ للحظات ثم قال :
- أيوة فعلا قولتلك كدة
قالت بإهتمام :
- يوميها قولتلى عن واحدة صحبتها بتحب اللى اسمه "مهند" ده وهى متعرفش
قال بتهكم وهى يحتسى من فنجان الشاى :
- وقال ايه صاحبته االأنتيم . .مكنتيش تشوفى نظراتها ليها وله كانت بتبقى عامله ازاى .. أقطع دراعى ان ما كانت البت دى بتحبه .. وبنتى الهبلة عملها صاحبتها ومقرباها منها ولحد دلوقتى بتتصل بيها
قالت "فيروز" :
- طيب ليه ما فهمتش "سامرين" وقولتلها على شكوك
قال بحده :
- هتتغابى انتى كمان .. وأقولها ليه .. أنا قولت يمكن البت دى تلف عليه وتخلصنا منه .. لكنها طلعت هبله زى بنتى بالظبط .. فضلت محلك سر .. أو يمكن حاولت وفشلت
قالت "فيروز" وهى تفكر بإمعان :
- اسمها ايه البنت دى ؟
- "نهلة"
معاك رقمها ؟
قال بدهشة :
- وعايزه رقمها فى ايه ؟
قالت بإصرار :
- معاك بس رقمها
قال بلا مبالاة :
- لا مش معايا بس ممكن أجيبه من "سامرين" قولتلك انهم بيتكلموا مع بعض على طول
قالت بلؤم شديد :
- طيب عايزاه ضرورى .. ضرورى أوى
حبكت "فيروز" خطتها الشيطانية والتى ساعدتهاعلى تنفيذها ذلك القلب الحقود والنفس التى تشتهى ما بيد غيرها .. بدا وكأنهما تفهمان بعض جيداً وتتحدثان بنفس اللغة .. عندما سألتها "فيروز" قائله :
- انتى بتحبى "مهند" مش كدة ؟
صمتت "نهلة" فضحكت "فيروز" قائله :
- متخفيش انا هساعدك تخلصى من غريمتك .. بس انتى كمان لازم تساعديني
قالت "نهلة" بلهفة وقد بأ الألم يدب فى قلبها منذ أن علمت بطلاقهما وبسفر "سامرين" .. قالت بلهفة :
- أساعدك ازاى
قالت "فيروز" بحزم :
- قوليلى الأولى .. بتحبى "مهند" ؟ .. ولا بتحبى "سامرين" ؟ .. أصل اللى هطلبه منك مينفعش تعمليه الا اذا كنتى بتحبى شخص واحد بس فيهم
صمتت "نهلة" للحظات ثم قالت بصوت مرتجف غلب فيه قلبها على عقلها :
- أيوة بحب "مهند" .. بحبه أوى .. فوق مالا تتصورى
قالت "فيروز" بحماس :
- تمام أوى .. اسمعيني كويس
***********************************
هتفت "سامرين" بحدة وهى تغادر فراشها تود نزع الضمادة من فوق وجهها :
- انتى بتستهبلى مش كدة ؟ .. مش ممكن أصدق طبعا
أوقفتها الممرضة فصاحت فيها "سامرين" :
- عايزه أفك وشى بأه .. كفاية عمليات زهقت .. زهقت
جذبتها "فيروز" وأجلستها فوق الفراش وقالت :
- اسمعيني كويس
هبت فيها "سامرين" قائله وهى تلهث :
- مش هسمعك .. انتى واحدة كدابة .. "مهند" قالى اننا لبعض .. وانه بيجهزلى الشقة وهيكلم بابا تانى وتالت ومليون لحد ما يوافق
قالت "فيروز" بقسوة :
- حبيب القلب اللى انتى مستنياه واللى مسألش فيكي ولا مرة من ساعة ما عملتى الحادثة خلاص بيوضب شقته عشان يتجوز واحدة غيرك
دفعتها "سامرين" بيديها قائله :
- انتى كدابة .. ده محصلش .. وأنا معرفش هو اتصل بيا ولا لأ .. انتوا خدتوا موبايلى ومنعين انى أتكلم فى التليفون كل ما أقول للممرضة عايزة موبايل تقولى ممنوع . .انتوا اللى منعينهم يخلونى أتكلم فى التليفون مش كده ؟ .. خايفين انى أوصل ل "مهند" ويوصلى ..قولوا اللى تقولوه مش ممكن أصدق انه يحب ويتجوز واحدة غيرى
أخرجت "فيروز" هاتف "سامرين" من حقيبتها وضغطت بعض الأزرار ثم قالت :
- اتفضلى كلمى عروسته لو مش مصدقانى .. اتصلت عشان تعزمك على فرحها وأنا رديت عليها
خطفت "سامرين" منها الهاتف ونظرت بدهشة الى اسم "نهلة" وهى تقول بغضب :
- ايه اللى انتى بتقوليه ده .. دى صحبتى
أتاها صوت "نهلة" قائله :
- ألو "سامرين"
قالت "سامرين" بلهفة :
- "نهلة" .. "نهلة" ازيك
أتاها صوتها باردا وهى تقول :
- كويسة .. ازيك انتى
الحمد لله يا "نهلة "
عقدت "فيروز" ذراعيها أمام صدرها .. فهتفت "سامرين" بتهكم :
- تصورى "فيروز" مراة بابا بتقولى انك عروسة "مهند" وان "مهند" هيتجوزك .. لا وواقفة أدامى بكل برود .. وخلتنى أتصل بيكي كمان
ثم قالت ل "فيروز" :
- ارتحتى كده لما كذبتك اتكشفت ؟ .. انتى فاكرانى عيلة صغيره عشان أصدق الكلام اللى بتقوليه ده
تعالت خفقات قلبها وتسمرت فى مكانها وهى تسمع "نهلة" تقول :
- لا صدقى
عدلت "سامرين" من وضع الهاتف فوق أذنها وهى تقول :
- "نهلة "مسمعتكيش .. بتقولى ايه
أتاها صوت صديقة الطفولة محملا بكل الحقد والكره الذى لم تتوقع أن تسمعه منها يوما وهى تقول :
- بقولك صدقى .. "مهند" ده الراجل الوحيد اللى أنا حبيته .. واللى اتمنيت انه يكون من نصيبى .. لكنك طول الوقت كنتى واقفة فى طريقي زى الحيطة السد .. بسببك مكنش قادر يشوفنى ولا حتى يحس بيها رغم انى كنت بحاول كتير انى ألمحله .. أنا كنت بتعذب وبتقطع أدامك وانتى مش حسه بيه .. مش حسيه بالنار اللى فى قلبى وانتى بتحكيلى عن مشاعرك نحيته .. محستيش بيا وأنا بموت يوم كتب كتابك .. كنت بتقطع وانتى فى قمة سعادتك .. عمرك ما حسيتي اللى جوايا .. ولو كنتى حسيتى كنتى دبحتيني بسكينة تلمه ولا كنت هفرق معاكى المهم انتى تتهنى وتعيشي مرتاحه ومبسوطة .. مش هيهمك قلب صاحبتك اللى بيتقطع وهى شيفاكى مع حبيبها .. أنا بكرهك يا "سامرين" بجد بكرهك .. أنا طول الوقت وأنا بحبك وبكرهك فى نفس الوقت .. بحبك لما نكون مع بعض زى أى بنتين صحاب .. وبكرهك لما بوشف فى ايدك دبلة "مهند" ولما بسمعك بتتكلمى عن "مهند" ولما بتوصفيلى مشاعرك ناحيته .. انتى معندكيش ذرة احساس والا كنتى حسيتى باللى فى قلبى .. يوم طلاقك كان يوم فرح بالنسبة لى لانى حسيت ان خلاص الأمل رجعلى تانى .. ما فرحتش قد ما فرحت بسفرك .. وبانى خلاص هخلص من العقبة اللى كانت واقفة فى طريقي .. كنت واثقة ان "مهند" لو عرفنى هيحبنى أنا .. وهيفضلنى عليكي .. أنا أحلى منك وأجمل منك وأشيك منك .. وأشطر منك .. كنت بتحسر لما بلاقيه يبصلك بحب وأنا حتى مبيرضاش يرفع عينه فى عيني .. بجد بكرهك يا "سامرين" .. وكرهتك أكتر لما كنتى سبب فى أذيته .. وباباكى حرقله دكانه وكان هيدخله السجن واستحمل كل ده عشانك .. بجد كرهتك أوى وقتها .. لكن دلوقتى خلاص "مهند" بأه معايا زى ما أنا عايزه وزى ما كنت بتمنى .. نساكى يا "سامرين" ومعدش فى قلبه حد غيري .. نساكى وقطع كل ذكرياته معاكى .. قطعها ورماها فى البحر أدامى .. خلاص خلص الشقة عشانى وحددنا معاد الفرح .. بقينا بنحلم مع بعض بحياتنا اللى جاية وبولادنا وبمستقبلنا مع بعض .. كان نفسى أقولك الكلمتين دول لانى كنت مخبياهم فى قلبي سنين طويلة .. وأخيرا جت اللحظة اللى طلعت فيها كل الى جوايا .. أنا دلوقتى ارتحت .. ربنا يوفقك فى حياتك .. بس أرجوكى ابعدى عنه وعنى وسبينا عايشين مبسوطين مع بعض كفايا اللى شافه بسببك ومن تحت راسك .. أنا هنسيه كل الألم اللى شافه معاكى .. وعلى فكرة كمان "مهند" قالى انه ملمسكيش .. ساعتها كنت طايره من الفرح .. قالى انى حبيبته الأولى والأخيرة .. ابعدى عنه يا "سامرين" ومتفرقيش بينى وبينه لانك حتى لو حولتى تفرقى بيننا مش هتعرفى .. "مهند" خلاص دبلته بقت فى ايدي .. وبكرة هينقلها فى ايدي الشمال .. معدلكيش أى وجود فى حياته .. ولا حياتى
لم تكن تلك كلمات تلقى على مسامعها .. بل خناجر تنهش فى قلبها .. حتى نزف كل قطرة من دمه .. وبقى كالخرقة البالية .. لا تصلح لشئ .. ولا نفع لها .. تقدمت "فيروز" لتطرق على الحديد وهو ساخن .. لم تأبى للحاله التى أصابت "سامرين" .. العبرات تتساقط من تحت الشاش الذى يغلف وجهها على جرحها ليزيدها ألماً بملحها .. ساكنه لا تتحرك .. تمسك الهاتف فى يدها المرتجفة وهى فى حالة غريبه .. وكأنها غائبة فى عالم آخر .. أمسكت "فيروز" الهاتف وضربت بعض الأرقام وقالت :
- دلوقتى كلميه .. قوليله انك مش عايزاه وانك خلاص هتتجوزى .. ردى كرامتك واعتبارك فهميه انك نستيه زى ما هو نساكى .. وانك هتدورى على حياتك ومستقبلك زى ما هو عمل .. حسسيه ان خيانته موجعتكيش .. ردى اعتبارك يا "سامرين"
وضعت "فيروز" الهاتف على أذن "سامرين" وقلبها يخفق بإضطراب .. تخشى أن تتفوه "سامرين" بما يفسد عليها خطتها .. تسرب الى أذن "سامرين" صوته .. فانتفضت .. بدت وكأنها خرجت من الغيبوبة التى دخلتها لدقائق .. أتاها صوته بلهفة :
- "سامرين" .. "سامرين" .. ألو
حاولت التحدث لكنها شعرت بلسانها قد ألجم .. أخيرا خرج صوتها مبحوحا بفعل الشاش والعمليات التى أثرت على حنجرتها وأحبالها الصوتية .. قال "مهند" بإستغراب :
- مال صوتك يا "سامرين" .. ألو
أخرجت صوتها بصعوبة لتقول بنبرة عنيفة تقطر ألما :
- "مهند" أنا بكرهك .. سمعت .. أنا بكرهك .. انتى دبحتنى .. أنا مش هسامحك أبدا .. أبدا .. أبدا .. ومش ممكن أفكر فيك تانى أبدا .. عيش حياتك زى ما انت عايز عمر ما واحدة هتحبك زى ما كنت بحبك
هتف "مهند" بقلب وجل :
- "سامرين" ايه اللى بتقوليه ده
قالت والنار تنهش فى قلبها :
- انت ولا حاجة بالنسبة لى .. هنسى كل حاجة تفكرنى بيك وبالايام اللى عشتها فى اسكندرية .. مش هفتكر غير ماما الله يرحمها .. مش عايزة أفتكر أى حاجة ولا أى حد بعدها .. هنساكوا كلكوا .. وهعيش حياتى مش هوقفها عشانك ولا عشان أى حد .. وهييجى اليوم اللى هتصل بيك وأقولك باركلى أنا اتجوزت
قفز قلبه فى حلقه وهو يقول بحده :
- انتى بتقولى ايه .. انتى بتخرفى تقولى ايه .. جواز ايه .. "سامرين"
أمسكت الهاتف من يد "فيروز" وألقته فى الجدار المقابل وهى تصرخ باكية .. جذب صوتها العديد من الممرضات اللاتى هرعن الى غرفتها لتهدأتها .. لكن هيهات .. كانت ثائرة كالبركان الغاضب الجامح .. لا يستطع أحد حبح جماح حممه الملتهبة الساخنة الحارقة .. فيقذفها يمينا ويسارا عله يرتاح وتبرد ناره !
************************************
ارتجف قلبه وهو يستمع الى "حمدى" الذى قال بحدة :
- ابعد عنها بأه وسيبها تشوف حياتها .. "سامرين" اتخطبت .. وكتب كتابها قريب .. حل عنها بأه
انتهت المكالمة لينهار "مهند" مادياً ومعنوياً فاقدا كل الخيوط اتلى توصله ب "سامرين" غير مدرك لما حدث .. ولماذا حدث .. وكيف حدث .. كل ما يعلمه أنها أصحبت حلم صعب المنال .. بعد عدة أشهر دب أمل بسيط فى كيانه .. وابتلع كرامته المهانه .. واتصل ب "حمدى" ليخبره بأنها قد كتب كتابها .. وعلى وشك الزواج .. لم يدرى "مهند" أتلك لعبة من "حمدى" .. أم أنها تزوجت بالفعل .. كاد أن يجن جنونه .. وأن يفقد عقله .. دون أن يجد اجابة شافية .. تذكر مكالمتها الأخيرة وكلماتها تخترق أذنه " وهييجى اليوم اللى هتصل بيك وأقولك باركلى أنا اتجوزت" .. صرخ قلبه بألم .. غير مصدقاً .. أن الحبيبة .. القريبة البعيدة .. التى كانت بالأمس حلاله .. صارت اليوم .. عشــق ممنــوع !
*****************************************
مرت السنوات كصحراء قاحلة لا تجد فيها "سامرين" ما يروى ظمأ روحها وقلبها .. أصرت "فيروز" على تقديمها الى المجتمع بإسم "سمر" تخفيفا لاسمها الذى لم ينل اعجابها .. وقفت خلف "سامرين" تنظرات الى المرآة وهى ترتدى ثوبا أنيقا وقد نزع حجابها وتكشف جسدها وكبر خواء روحها .. قالت "فيروز" من خلفها مبتسمة :
- اسم جديد وشكل جديد وحياة جديدة
لكن "سامرين" كانت تشعر بأنها فقدت كل معنى للحياة .. وكل رغبة فى التمسك بها . .فتركت الأمواج تتقاذفها كيفما شاءت .. دون ضابط أو رابط .. تأخذها الحياة يمينا ويسارا دون بوصلة تحدد وجهتها .. حتى أوقعتها الأقدار فى طريق "باهر" الذى عرض عليها الزواج فى لحظة اندفاع .. وبقلب ظمآن .. وروح تتمنى الخلاص وافقت .. وهى لا تعلم لما وافقت .. لكنها تعلم بأن قلبها يحتاج وليفا يعوض بحنانة قسوة أيامها ومرارتها
مرت تلك السنوات على "مهند" وهو يزداد قربا من الله .. شاكيا ضارعا اليه .. ان يرحمه من ذلك الألم الذى سكن فؤاده .. استخار واستشار فكان رد شيخه الوفى :
- حلك فى الجواز يا ابنى
لا يعلم لما اختار "نهلة" كزوجة يحاول بها ملء خواء أيامه .. ألأنها صديقها . .ألأنها جزء منها .. ألأنها أوقعت نفسها فى طريقه .. لا يعلم .. لكنه استخار وألقى بحموله على الله .. وقدم المهر للعروس .. وتم الزفاف
كان "عدنان" قد بدأ فى جمع ما تبقى من أشلاء عائلته المشتته .. حوله وتحت رعايته .. رفض "مهند" ترك الاسكندرية والقدوم الى القاهرة .. لكن الأقدار شاءت أن يتوفى زوج "انعام" وتعود الى القاهرة تعيش مع "عدنان" فيلته .. وبعد زواج "مهند" بعام توفى والده دون أن يراه الا مرات قليلة خلال تلك السنوات .. عادت "فريدة" لتنضم الى "مهند" فى بيته تقضى بضعه أشهر معه ومع "نهله" التى كانت تتباهى أمامها دائماً بالحب الذى جمعهما .. وأخفت عنها العبرات التى تزرفها كل ليلة .. بعدما أيقنت بأنها لم تمتلك فى "مهند" سوى جسده .. لكن قلبه ظل محصن .. بعيد المنال .. كان يعاملها برفق كما أوصى النبى الرجال .. لا يمنع عنها حقا من حقوقها .. يؤدى واجباته تجاهها كما الكتاب .. لكن قلبه ليس له عليه سلطان .. فهو بيد رب الأرباب !
ما هى الا شهور قليلة حتى وقع الحادث الأليم لتروح ضحيته "نهلة" وينجو "مهند" و "فريدة" .. شعر "مهند" بالذنب لفقدها .. لقلة خبرته فى القيادة .. رغم يقينه بأنه لم يكن المخطئ فى تلك الحادثة .. لكن بقى بداخله شعورا بتأنيب الضمير .. ظل ملازما له لفتره الى ان تناساه شيئا فشيئا .. ولم يبقى لها فى قلبه سوى الدعاء لها بالرحمة والمغفرة
انضم بعدها "مهند" و "فريدة" الى "عدنان" و "انعام" يعيشون معاً كأسرة يعوض كل منهم الآخر عن الأسرة التى فقدها !